[gdwl]
أقصوصة واقعية ولا زال حاكيها حيا يرزق .
ذكريات سجين
تعودت إلى درجة التآلف مع العتمة المطبقة ، والرائحة الكريهة ، وجدران الإسمنت الباردة الملطخة ، في زنزانة انفرادية حيث حشرت منذ شهور ... سنوات ... .
بها لم أعد قادرا على عد ما مر أو بقي من الزمن .
ليل دائم مسترسل ، يذكرني بعيش كائنات غير تابعة لنظامنا الشمسي .
نهارها كليلها ووقتها ليل سرمدي بلا انقطاع .
ودعت الشمس ودفئها لما عصب جلادي عيني وكتم أنفاسي وساقني إلى المجهول .
تساءلت مرارا عما اقترفت من جرم ، فلم أعثر على جواب . .
حرمت من الضوء والهواء والفضاء الشاسع ، فاستعضت عنها برحابة صدري واطمئنان نفسي .
لم يعد هناك فرق بين أن أجوب مسالك وأزقة مدينتي أو أن أتجول داخل زنزانتي ، أصغي إلى زقزقة الطيور الأسيرة فوق أبراجها ، وأستمتع بخرير الجداول المحملة بسيول الدم المسفوح ، وأتأمل وردا متفتحا ذا لون قاني متموج ، وتنبعث منه رائحة كريهة مقززة
وهم جلادي حين ظن أني حبيس جدران الإسمنت ، وراء قضبانه الحديدية السميكة ، محكمة الإغلاق والإقفال . بل إني طليق أرفرف في الفضاء . استعرت أجنحة فراشة زاهية الألوان . تذروني الرياح فأجوب الوهاد والجبال . أزور كل حين والدتي . أخفف من لوعتها على فراقي . أكفكف دموعها ، وأمسح بمنديلي المطرز المخروم المتهدل وجنتيها ، وأعترض سبيل السيل المتدفق من مقلتيها . أشكو لها ضعفي ونفاذ صبري . وتواسيني بقص بعض صور طفولتي الضائعة بين جمر الحرمان وقهر الاستبداد والطغيان .
تذكي حماسي وتقوي جلدي .
أتوسد ركبتها اليمنى وأتتبع رنات صوتها المبحوح الحزين ، إلى أن أستسلم للنوم العميق .
كما أعرج خلسة على حجرة زوجتي . أسلم وأداعب طفلتي الرضيعة ، واطبع على وجنتيها قبلات الشوق والحنين
نادرا ما أقبع داخل جحر الزنزانة البغيض ، وحين آوي إليه أشتغل باسترجاع التفاصيل المملة لذكرياتي .
عز علي بعدي عن قرطاسي وقلمي . تراكمت أمامي الأحداث فشرعت في تدوين مذكراتي بحلمة السبابة على حائط زنزانتي .
ارتسمت كلها نقوشا محفورة في ذاكرتي ، تستعصي على المحو أو النسيان .
الوقت ينساب ببطء شديد ، تكسر تموجاته الهادئة الرتيبة إطلالة السجان من كوة المراقبة ، لإلقاء قطعة خبز محشوة بقليل من العدس أو الحمص أو الذرة ، وأحيانا تصحبها قنينة صغيرة من الماء . إنها الوجبة اليتيمة في اليوم .
في ليل بهيم ، تنازعني الموت والحياة . سلمت أمري واستسلمت ، فاسترق سمعي خطوات قادمة نحوي ، خلتها هواجس كسابقاتها .
هب ريح بارد كالسموم، وتسلل ضوء خافت لفني من كل جهاتي .
باب الزنزانةالحديدي يفتح ، أسمع أحدهم يقول :
رائحة كريهة هنا .
ألا زال هذا حيا ؟
دهسني بحذائه ، و خاطبني يسألني عن جرمي وفصيلتي .
تجاهلته كأني لم أفهم ، وأدرت وجي عنه ردا على إمعانه في إهانتي .
لم يبق لدي ما أعتز وأفخر به سوى هويتي وكرامتي .
أشار إلى مرافقيه :
نظفوه وعالجوه ليعرض بعد أيام على التحقيق .
لسعتني أضواء الشمس وكأني أولد من جديد .
قدماي لا تقوى على حملي .
أطرافي ترتجف وتحول دون تحكمي في حركاتي .
تكلم المحقق ، وأشار بكلتا يديه نحوي متسائلا :
أين وجدتم هذا ؟
عثرنا عليه في إحدى الزنزات المعدة للترميم والإصلاح ، وكلما نعلم عنه أنه هناك منذ سنوات .
أطرق قليلا ثم أضاف بلهجة صارمة :
تخلصوا منه حالا .
عبئوه في كيس واطرحوه داخل وعاء القمامة بأحد شوارع المدينة ، لتنهشه كلابنا الضالة الموزعة هنا وهناك ...
محمد الطيب الحواط
[/gdwl]
lk l`;vhj s[dk