المعاناة ـ أقصوصة المعاناة صباح أول يوم بعد عطلة نهاية الأسبوع . داخل قاعة الدرس بمدرستي قلت في نفسي : ليتها تجاهلت تواجدي لأضع رأسي فوق الطاولة ، أشعر بهدير عميق يدوي بين صدغي ، ينبعث من جذور دماغي ويحاول الانفلات عبر ناصيتي . تصيح المدرسة مرة أخرى .انتبهي سارة إنك منشغلة عن الدروس منذ مدة . إني محتارة بين اختيارين بعد اعتذاري لها : إما أن أتنحى خلف الصفوف وأتفرغ لتتبع الوخزات المؤلمة المنبعثة من جمجمتي ، أو أغادر قاعة الدرس . إني - بصدق - غير قادرة على المتابعة والتركيز . صوتها وهي تقرر وتستنبط كأنه نعيق يلهب مسمعي ويغذي محنتي وإن رفضت ... ما العمل ؟ أعتقد أنها ستفسر طلبي محاولة للهروب والتخلص .. سبق أن رفضت لزميلات معي نفس الطلب . إنها صارمة قاسية . لعل ظروف عيشها ، وفشلها في بناء أسرة، تحول دون تحليها بالشفقة والتسامح والحنو .أو أنها مصرة على إنقاذ الأجيال المستهدفة ، من الضياع . نفذ صبرها أمام إصراري على تجاهل ندائها ، فزمجرت ورددت كلمات لم تصلني إلا نبراتها الجافة . اشرأبت أعناق زملائي وتوجسوا شرا . بسرعة البرق استرجعت ، لما حرمت أحد تلاميذها من حضور حصصها لكونه - آنذاك - ادعى أنه نسي تحضير وإنجاز واجبات البيت . فما عساها ستقرر اليوم في حقي ؟ لا يهمني ، إنني لست مدعية ولا متظاهرة ، ولا أعرف ما الذي ينتابني.وخاصة هذه الأيام . وقفت هنيهة بجوار مقعدي ، ثم انحنت لتكلمني ، متحسسة حرارة صدغي . سألتني ... فأجابتها قشعريرة تسري بين أوصالي ، مع اصطكاك أضراسي . نابت عني لما أفقدتني القدرة على النطق . -خذي قسطا من الراحة بقاعة التمريض . وقبل انصرافك من الدرسة كلميني لأطمئن على صحتك . استغرب الجميع قرارها ، وأسرعت أنا بالانصراف قبل أن تغير رأيها . كلفت من يساعدني فولجنا قاعة صغيرة على بابها : مصحة المدرسة . حاولت احتواء رأسي بدراعي لأخفف من حدة آلام تمزق هدوء القاعة وتعصف براحتي . مكثت زهاء ساعة لا ألوي على شيئ، استعرضت خلالها شريط أحداثي : لم أنعم بالراحة ولا بالنوم منذ مدة . أعيش حالات القلق والكآبة ووهن الأعصاب . تنتابني أحيانا هستيريا الخوف من المجهول . لا أتبين مصدرها ولا مدى خطورتها ، وإنما أتوجس الهلاك المحقق . التقط سمعي طرقات غائرة على الباب ، ثم خطوات متلاحقة تتقدم نحوي ، إنها معلمتي . وجدتني سابحة بين خراطيم عيني وأنفي وفمي ، منكفئة على ركبتي ككومة رمل صبت من عل . خاطبتني باسمي وحركتني برفق من كتفي . أجبتها بإشارة من سبابتي . حاولت مساعدتي للجلوس . رقت لحالي. نقلتني إلى مكتب إداري . وقالت : خفيفة ... خفيفة أجبتها بصوت خافت متهالك : -أعاني من انهيار كامل ، وآلام حادة متفرقة ... مع الإحساس بحالة غريبة : كأني ألقيت من رأس جبل شاهق ، ولا زلت أهوي وأتجه نحو قعر سحيق . جلست بجانبي وتناولت رأسي وأسندته إلى صدرها . شعرت بدفء منعش . قالت : -متى بدأ إحساسك بالألم ؟ -لا أستطيع التحديد ، كل الذي أتأكد منه أني أعاني بسببه من الأرق والاضطراب . - منذ متى ؟ -منذ أزيد من ثلاثة أشهر . - هل تخشين شيئا محددا ؟ - أخشى أشياء عدة وعلى رأسها .. .. تلعثمت ولم أكمل حديثي .... فغيرت صيغة التساؤل . - هل تفكرين قبل نومك في حالة أو حدث بعينه ؟ - والدتي .. أخي ... أبي ... وأجهشت بالبكاء . والدتك وأخوك خرجا لقضاء بعض المصالح ولم يعودا . نتوقع وصول أخبار عنهما . ــ فأجابت : لكن أمي تكلمني يوميا قبل وبعد منامي . لا زلت أذكر أن عللها متفاقمة ولا تقوى على قضاء الليالي تحت الخيام . إنني أقتسم معها فراشها من الورق المقوى وغطاءها القصير المترهل . أتألم لألمها وأبكي لتضورها وأرقد بجوارها . صوتها يدوي في مسمعي إلى الآن ، وكذا أنينها وتوسلاتها وأوامرها ورغباتها هاهي إلى الآن تارة تناديني وأخرى تصيح في وجهي ، وثالثة تحتضنني وتربض على رأسي بحنان متدفق يملأ جوانحي . أشاهدها كما أشاهد أخي ، وأكلمهما كلما أغمضت عيني . لا أستطيع تصور أنهما غادرا نحو المجهول . والذي يؤرقني كثيرا هو أبي الذي اقتيد من باب البيت أسيرا نحو مكان غير معروف . فبادرت المعلمة : إنه واقعنا المرعب الذي علينا أن نعيشة رغما عنا . وهي وقائع قمينة بإحداث ما تشعرين به ، لقد عايشت ونعايش جميعا أحداثا ومصائب يشيب لهولها الولدان . إننا نعاني مثل ما تعانين . ولكننا نتجاهل الألم من أجل الاستمرار . لفتني من جديد بذراعيها وأخذت تردد بصوت مخضب بزفرات الأسى مبلول بدموع الحسرة والحزن : خفيفة ... خفيفة ... ستفرج قريبا . سألتها إحدى العاملات بإدارة المؤسسة .فقالت : إننا جميعا نعاني مما تعاني هاته . غير أنها ضعفت أمام الصراع الانفعالي الذي ولد لديها ضغوطا نفسية متراكمة . تغذيها ــ للأسف ــ وتزكيها باستمرار تصرفات جيرانها وبعض أبناء عمومتها . محمد الطيب الحواط |
رد: المعاناة ـ أقصوصة سلمت يداك أخي الحواط |
رد: المعاناة ـ أقصوصة شكرا لمرورك على موضوعي وهذا شرف لي ووسام على صدري |
الساعة الآن 06:28 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
هذا الموقع يتسخدم منتجات Weblanca.com
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع الحقوق محفوضة لموقع القلم الذهبي