الحمد لله رب العالمين، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ صلَّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدِّين، أما بعد:
من أعظم أنواع الافتراق، وأشدِّها فتْكًا بالناس - الافتراقُ في الدِّين؛ لأنَّ
الافتراق فيه يؤدِّي إلى افتراق القلوب والأبدان؛ بل يؤدِّي إلى الفتنة والعداوة والبغضاء والاقتتال.
وحين أراد الله - تعالى - هِدايتَنا ونجاتنا، بعَث إلينا نبيًّا واحدًا، وأنزل عليه كتابًا واحدًا، وجعل لنا دِينًا واحدًا وقِبْلةً واحدة؛ لتجتمع القلوب على عبادة ربٍّ واحد لا شريك له، بعد أن كانت العرب تَعبد بالباطل آلهةً كثيرة؛ ولذا استنكروا ذلك، وقالوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: 5].
فكانت أمَّةُ الإسلام أمةً واحدةً بعبادتها لربِّها، واتِّباعها لنبيِّها، وقراءتِها لكتابها، واستقبالها لقبلتها ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92]؛ أي: إنَّ هذه شريعتكم شريعة واحدة، ودينكم دين واحد، وربكم واحد؛ فلا تتفرَّقوا في الدين.
ومَن استقرأ القرآن الكريم وجد آياتِه تكرِّس في وجدان المسلم الانتماءَ إلى الأمَّة الواحدة، والاجتماعَ على الدِّين، وتحذِّر من الفرقة والاختلاف، وتبيِّن أن أعظم سبَبٍ للفُرقة والاختلافِ هو التخلِّي عن الدِّين كلِّه أو شيء منه.
أما إذا تمسَّك أفراد الأمة كلُّهم بمُحْكَمات الدِّين وفرائضه، فلن تقع فيهم فُرقةٌ أبدًا، ولن يَظفر أعداؤهم منهم بشيء ألبَتَّة، كما كان حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - إذ تحطمت قوة المشركين، ومكايد اليهود، ودسائس المنافقين على صخرة الاجتماع على الإيمان والتقوى.
وكل آية ذُكر فيها الاجتماع، وحُذِّر فيها من الافتراق، نَجد فيها ذِكْرًا للدين ومفرداته، وهذا يؤكِّد أنَّ كل اجتماع في الأمة إنما سبَبُه التمسُّك بالدين، كما أنَّ كل فرقة سببها ترك شيء من الدين ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وحبل الله هو دينه وكتابه واجتماع الأمة عليه.
وفي آية أخرى يوصينا بذلك ربُّنا العليم الحكيم، وما أعظمَها من وصية لو وعيناها وعملنا بها: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
فأمَر باتباع صراطه، وهو دينه، ونَهى عن تركه كله أو شيء منه إلى سبل أخرى، فيقع الافتراق عن سبيله، ومن ثَم تفترق الأمة بأجمعها.
ولِعظيم هذه الوصية الربَّانية؛ كُرِّرت في موضع آخر من كتاب الله - تعالى - مع الإخبار أنها وصية الله - تعالى - لنا وللأمم التي كانت قبلنا: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13].
تأمَّلوا عِظم هذه الوصية الربانية التي وصَّى بها ربُّنا - سبحانه - أُولي العزم نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى، ثم وصَّى به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وصاهم أجمعين بقوله - تعالى -: ﴿ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13].
فهل ترَونَها وصيَّةً هيِّنةً وقد كرِّرت في القرآن، وتتابعت وصية الله - تعالى - بها للبشر أمَّةً بعد أمة، ونبيًّا في إثر نبي؟!
ثم أكِّدت هذه الوصية العظيمة بتهديدِ مَن أخلَّ بها، وذلك بسَلْبه شرف الانتماء للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 159].
أي: أنت منهم بريء، وهم بريئون منك، وما أعظمَ خسارةَ مَن بَرِئ منه النبي - صلى الله عليه وسلم -!
قالت أمُّ سلمة - رضي الله عنها -: "ليتقِينَّ امرؤ أنْ لا يكون من رسول الله في شيء".
فبان بهذه الوصية العظيمة أنَّ تفريق الدِّين وتجزئته بأخذ بعضه وترك بعضه - سببٌ لافتراق الأمة، وهو سببُ افتراق أمَّة بني إسرائيل قَبْلنا التي قصَّ الله - تعالى - علينا خبَر افتراقهم وسبَبه ونتائِجَه السيِّئة؛ لنجانِبَ طريقتهم، فأخبر الله - تعالى - عنهم بقوله - سبحانه -: ﴿ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ﴾ [النساء: 150].
وأنكر - عزَّ وجلَّ - ذلك عليهم: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 85].
فنهانا الله - تعالى - أن نكون كما كانوا، وأن نتفرَّق في ديننا كما تفرقوا هم في دينهم: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ [آل عمران: 105].
وفي آية أخرى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ﴾ [الروم: 31 - 32].
ومن المهمِّ أن نعلم أن أمة بني إسرائيل حين تفرَّقتْ عن دينها كانت أمَّةَ عِلم، وليست أمة جهل، فَكتُبها بين أيدي أحبارها، وعلماؤها متوافرون، ولكن تجزئة الدين فَرَّقتْهم عن الحق، وفرَّقتهم طرائق قِدَدًا.
قال الله - تعالى – عنهم: ﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 14].
وفي آية أخرى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 4].
فالأمة قد تفارق طريق الحق، ولو كانت تملك الكتاب الحقَّ، إذا هي فرَّقت العمل به، فأخذتْ ما تَهوى، وتركت ما لا تَهوى.
ولما أَخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن اختلاس العلم من هذه الأمة - عَجِب زِيَادُ بن لَبِيد الأنصاريُّ، وتساءل: "كيف يختلس منا وقد قرَأْنا القرآن؟! فوالله لنَقرأنه ولنُقرئنَّه نساءنا وأبناءنا"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا تغني عنهم؟))؛ رواه الترمذي، وقال: حسن غريب.
ورغم تحذير الله - تعالى - هذه الأمَّةَ من التفرُّق في الدِّين، وتحذير رسوله - صلى الله عليه وسلم - منه، إلا أنَّ داء الأمم السابقة سيُصيبها؛ فوقع كثير من أفرادها في تفريق الدِّين، والاختلاف فيه، فكان ذلك سببَ افتراقِها وهوانها.
ولكن الناصح الأمين - صلى الله عليه وسلم - أخبَر مَن أراد من أمته النَّجاة بما ينجيه عند الافتراق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((دعُوني ما ترَكْتكم؛ إنما أهلك مَن كان قبلكم سؤالُهم واختلافُهم على أنبيائهم، فإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمَرتُكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))؛ رواه الشيخان.
وكيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ذَكَر هلاك بني إسرائيل باختلافهم على أنبيائهم، قرَنَ ذلك بالأَخْذ بالدِّين وعدم تفرقته، فأمَر بفِعْل ما يُستطاع من الأوامر، وباجتناب النواهي.
وأَبْين مِن ذلك وأعظم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعَل التمسُّك بالدِّين عند الافتراق موضوعَ وصيَّتِه العظيمة التي ودَّع
الصحابة - رضي الله عنهم - بها، فذرفت منها عيونهم، ووجلت قلوبهم، فسَألوه الوصيَّة فأخبرهم بما يقع من التفرُّق في الدين والاختلاف عليه.
ثم بيَّن لهم ما ينجيهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنَّه مَن يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم والمُحْدَثاتِ؛ فإنَّ كلَّ مُحدثة بدعة))؛ رواه الدارمي.
ما أعظمَ فضْلَ الله - تعالى - علينا حين وصَّانا في القرآن مرَّتين بعدم الافتراق في الدِّين، وأمرَنا بأخذه كله!
وما أعظم فضلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا حين علم أنَّ الافتراق في الدِّين واقع في أمته لا محالة، فوصَّاها بما ينجي مِن تلك الفتنة العظيمة! وهو التمسك بالدين كلِّه، على هَدْي سلف هذه الأمة، ومجانبة البدع وأهلها؛ فهي من أعظم أسباب الافتراق:
((فإنَّه مَن يعِشْ منكم بعدي، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم والمُحْدثات؛ فإنَّ كلَّ مُحْدثة بدعة)).
نسأل الله - تعالى - أن يثبِّتنا على الحقِّ المبين، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يُلهمنا رشْدَنا، وأن يَكفينا شُرور أنفسنا، وأن يُعيذنا من مضلاَّت الفِتَن، ومن التفرُّق في الدِّين، إنه ولي حميد.
منقول