ليتها تجاهلت تواجدي لأضع رأسي فوق الطاولة ، أشعر بهدير عميق يدوي بين صدغي ، ينبعث من جذور دماغي ويحاول الانفلات عبر ناصيتي .
تصيح المدرسة مرة أخرى .. انتبهي فاطمة .
إني محتارة بين اختيارين بعد اعتذاري لها :
إما أن أتنحى خلف الصفوف وأتفرغ لتتبع الوخزات المؤلمة المنبعثة من جمجمتي ، أو أغادر القاعة إلى مصحة المؤسسة . إني - بصدق - غير قادرة على متابعة الدرس . صوتها وهي تقرر وتستنبط نعيق يلهب مسمعي ويغذي محنتي .
وإن رفضت ... ما العمل ؟
أعتقد أنها ستفسر طلبي محاولة للهروب والتخلص ..
سبق أن رفضت لزميلات معي نفس الطلب .
إنها صارمة قاسية .
ظروف عيشها ، وفشلها في بناء أسرة، حالت دون تحليها بالشفقة والتسامح والحنو .
نفذ صبرها أمام إصراري على تجاهل ندائها ، فزمجرت ورددت كلمات لم تصلني إلا نبراتها الجافة .
اشرأبت أعناق زملائي وتوجسوا شرا .
بسرعة البرق استرجعت وقائع يوم حرمت أحد تلاميذها من حضور حصصها لكونه - آنذاك - ادعى أنه نسي تحضير وإنجاز واجبات البيت .
فما عساها ستقرر اليوم في حقي ؟
لا يهمني ، إنني لست مدعية المرض ، ولا أعرف ما الذي انتابني.
وقفت هنيهة بجوار مقعدي ، ثم انحنت لتكلمني ، متحسسة حرارة صدغي .
سألتني ...
فأجابتها قشعريرة تسري بين أوصالي ، مع اصطكاك أضراسي . نابت عني لما أفقدتني القدرة على النطق .
-خذي قسطا من الراحة بقاعة التمريض .
وقبل انصرافك كلميني لأطمئن على صحتك .
استغرب الجميع قرارها ، وأسرعت أنا بالانصراف قبل أن تغير رأيها .
كلفت من يساعدني فوقعت على السرير من غير تحكم ولا تدبير .
حاولت احتواء رأسي بدراعي لأخفف من حدة آلام تمزق هدوء القاعة وتعصف براحتي . مكثت زهاء ساعة لا ألوي على شيئ، استعرضت خلالها شريط أحداثي :
لم أنعم بالراحة ولا بالنوم منذ مدة .
أعيش حالات القلق والكآبة ووهن الأعصاب .
تنتابني أحيانا هستيريا الخوف من المجهول .
لا أتبين مصدرها ولا مدى خطورتها ، وإنما أتوجس الهلاك المتحين المحقق .
التقط سمعي طرقات غائرة على الباب ، ثم خطوات متلاحقة تتقدم نحو سريري ، إنها مسعفة المصحة .
وجدتني سابحة بين خراطيم عيني وأنفي وفمي ، منكفئة ككومة رمل صبت من عل .
خاطبتني باسمي وحركتني برفق من كتفي .
أجبتها بإشارة التوحيد من سبابتي .
حاولت مساعدتي للجلوس .
رقت لحالي.
وقالت :
لا أراك الله بأسا ...
خفيفة إن شاء الله ...
أجبتها بصوت خافت متهالك :
-أعاني من انهيار كامل ، وآلام حادة متفرقة ... مع الإحساس بحالة غريبة :
كأني ألقيت من رأس جبل شاهق ، ولا زلت أهوي وأتجه نحو قعر سحيق .
جلست بجانبي وتناولت رأسي وأسندته إلى صدرها .
شعرت بدفء منعش .
قالت :
-متى بدأ إحساسك بالألم ؟
-لا أستطيع التحديد ، كل الذي أتأكد منه أني أعاني بسببه من الأرق والاضطراب .
- منذ متى ؟
-منذ أزيد من شهر .
- هل تخشين شيئا محددا ؟
- أخشى أشياء عدة وعلى رأسها .. .. تلعثمت ولم أكمل حديثي ....
فغيرت صيغة التساؤل .
- هل تفكرين قبل نومك في حالة أو حدث بعينه ؟
- والدتي .. أخي ... وأجهشت بالبكاء .
والدتك وأخوك اختارهما الله ليرحلا إلى جواره وكلنا سنلتحق بهما إن عاجلا أو آجلا .
- وهذا هو ما يؤرقني .
قد صارعت أمي سكرات الموت أمام صغارها .
كنا نعتقد أنها سترحل مدة ثم تعود ، إلا أنها غابت إلى الأبد .
لا زلت أذكر أن عللها تفاقمت عقب الحادثة المفجعة التي أودت بحياة أخي ، فلم تستطع عليه صبرا .
من حينها اقتسمت معها سريرها أتألم لألمها وأبكي لتضورها وأرقد بجوارها . إلى أن امتدت لروحها يد المنية فانتزعتها وأنا منزوية بين أحضانها ، أسمع من حولها يرددون بأصوات الهلع والدهشة :
إنها تموت
إنه الموت ..
حضرها الموت ..
ومنهم من يردد على مسمعنا ألفاظ الشهادتين وبصوت قوي مرتفع .
انتصبت مفزوعة أحاول معرفة ما يحدث ، فلم أشاهد إلا من حضر من أسرتي يتداولون مراسيم تشييع جثة أمي وهي بصدد مفارقة الحياة . وقد سلموها لمصيرها بعد أن يئسوا من حياتها .
لا زال صوتها يدوي في مسمعي إلى الآن ، وكذا أنينها وتوسلاتها وأوامرها ورغباتها .
هاهي تارة تناديني وأخرى تصيح في وجهي ، وثالثة تحتضنني وتربض على رأسي بحنان متدفق يملأ جوانحي .
كما أن لقطات مقاومتها ومعاناتها واحتضارها واستسلامها وتشييعها منقوشة بذاكرتي ، أعيد استعراضها كل حين .
أشاهدها كما أشاهد أخي ، وأكلمهما كلما أغمضت عيني ، فأتوسل لهما أن يعودا ..
فبادرت الممرضة :
-إنها وقائع قمينة بإحداث ما تشعرين به ، لقد عايشت مصائب يشيب لهولها الولدان .
فلفتني من جديد بذراعيها وأخذت تردد بصوت مخضب بزفرات الأسى مبلول بدموع الحسرة والحزن :
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
سألتها إحدى العاملات بإدارة المؤسسة .
-ما الذي أصابها ؟ منذ فترة كانت سليمة نشيطة ؟
-لعلها تعاني من بعض أنواع الصراع الانفعالي نتيجة ما عاشت من أحداث ، ولدت لديها ضغوطا نفسية ، تغذيها - للأسف - ذكرياتها المؤلمة ، تبدو الآن في تصرفها على شكل شكاوى من آلام جسمانية أو مشاعر مخيفة متشائمة .
سأحرص على مساعدتها لتجاوز معاناتها ، وستعود قريبا لحيويتها ودراستها كما كانت ، وأفضل من السابق .
عند نهاية حصة الصباح
أخذت بيدي وبمساعدة بعض العاملين هناك وصلت إلى البيت.
بعد اطمئنانها على استرجاع بعض هدوئي داخل غرفتي ودعتني متمنية لي عاجل الشفاء .
وقبل انصرافها نصحت أهلي باستشارة طبيب سيكوسوماتي، ودلتهم على أقرب عيادة بهذا التخصص .
حضر الطبيب على عجل .
إنه رجل وقور مهاب ، مرح متواضع بشوش ، كهل يفيض حيوية ونشاطا ، ملأ الشيب ذقنه وحواجبه وجزء غير يسير من شعر رأسه .
طمأنني عقب استماعه إلى أشكال معاناتي .
وأضاف :
لا زلت في سن البراعيم ، ولمرحلة المراهقة التي تجتازين
نصيب مما تعانين .
سأصف لك دواء نافعا ، وأنصحك باستعماله مع المداومة على تلاوة القرآن، وخاصة عقب كل صلاة مفروضة .
ثم عقد جلسة توجيه وتوعية لفائدة جميع أفراد أسرتي .
مساء نفس اليوم زارتني معلمتي .
أنهت حصصها وقدمت رفقة زميلات لعيادتي .
بدت مشدوهة لما آل إليه منظري ، فسارعت إلى احتضاني لما لم أتمالك نفسي ، ولم أقو على كفكفة دموعي .
إنها الوسيلة الوحيدة للتعبير عن ضعفي وهواني .
والأداة المتاحة للإفصاح عما يختلج في أعماقي .
في حين تأثرت زميلاتي فانخرط بعضهن في النحيب .
عم فضاء حجرتي جو شبيه بأيام وليالي تشييع أمي وأخي .
بادرت معلمتي وقالت :
-أرى لديك علبة دواء . هل زارك طبيب ؟
-نعم . وقد وعد بعيادتي صباح مساء .
هي بدورها ، أخذت تزورني يوميا ، إلى أن توطدت علاقتها مع كل أفراد أسرتي .
وتعهدتني حتى غدوت قادرة على ممارسة المعتاد من أنشطة حياتي .
سعدت كثيرا بتجاوز أزمتي .
كما فرحت بمبادرة المؤسسة التي نظمت حفل استقبال وتكريم يوم عودتي لاستئناف دراستي .
محمد الطيب
الحواط