نصف قرن.. محمد الخامس واستقلال المغرب
قبل خمسين عاماً من اليوم، عاد الملك الراحل محمد الخامس وأفراد أسرته من منفاهم الاستعماري في مدغشقر الى وطنهم: المغرب. لم يكن أمراً عادياً أن يتعرض ملكٌ للنفي، وليس ذلك من المألوف في تاريخ الملوك. كان لا بد أن يكون من طينة أخرى ومعدن آخر حتى يَلْقَى من السلطات الاستعمارية ما لقيه وأصاب في الصميم الكرامة الوطنية للمغاربة جميعاً. وقطعاً لم يكن عادياً أن يعود منتصراً فيما الذين آذَوْهُ بالنفي كانوا يحزمون حقائبهم للرحيل عن بلدٍ جثموا على صدره ثلاثة وأربعين عاماً.
وقبل خمسين عاماً من اليوم، وفي أجواء العودة، أعلن الملك عن انتهاء عهد الحجْر والوصاية وبداية عهد الاستقلال. وما كان أمراً عادياً أن يطوي المغرب سريعاً ملف الاستعمار فيه في بحر سنوات معدودات فاصلة بين توقيع “عريضة المطالبة بالاستقلال” (11 يناير 1944) وعودة الملك من منفاه القسري. كان لا بد أن تكون معركة التحرر الوطني قد خيضت بكفاءة واقتدار وتوزعت أدوارها على جبهاتها المختلفة بقدر من التنظيم والإدارة محكم حتى تظفر بالنجاح.
لا تُدْرَك فَرَادَةُ الملك محمد الخامس إلا بإدراك المنعطفات السياسية الكبرى في تاريخ المغرب الحديث. فما كان صدفة أن اسمه ارتبط بأظهر تلك المنعطفات لأنه كان واحداً من صُنَّاعها: مباشرة أو من طريق غير مباشر. أهم تلك المنعطفات ثلاثة: العريضة، واندلاع المقاومة وجيش التحرير، والاستقلال. وفي كل واحدة منها، كان محمد بن يوسف (الخامس) حاضراً.
لم تكن أهمية “عريضة المطالبة بالاستقلال” في أن قادة العمل الوطني ورموزه مَهَرُوها بتوقيعاتهم وأسمائهم مُتَحَدِّين السلطات الاستعمارية تحدِّياً جهيراً، فذلك من تحصيل الحاصل، لأن الموقّعين في جملة من أطلقوا الحركة الوطنية المغربية في صيغتها السياسية والتنظيمية الحديثة في مطلع ثلاثينات القرن العشرين، وكان أكثرهم عرضة للعقاب المبرّح: اعتقالاً أو نفياً، منذ تأسيس “كتلة العمل الوطني”، وبالتالي ينتمي تحرير العريضة وتوقيعها الى جدول أعمالهم الوطني (اليومي) على ما في إعلانها من جرأة مشهودة. كانت أهميتها بالأحرى على صعيدين: المبادرة برفعها الى الملك ثم التوافق بين الملك والحركة الوطنية على اعتبارها مطلباً وطنياً عاماً لكل الشعب. وإذ كان قرار رفعها الى الملك مما يدل على ثقة الحركة الوطنية بدوره الوطني في مواجهة الاستعمار (وليس فقط لأنه عنوان السيادة ورموزها)، فإن استقبال الملك للوثيقة بالرضا والقبول، وإسباغه الشرعية الرسمية عليها، وتحالفه مع الحركة الوطنية من أجل تحقيق أهدافها، هو ما أدخل العريضة في باب التاريخ السياسي وقدّم لها إمكانية غنية للتحقق. إذ قطع الطريق بخطوته على استفراد الاستعمار الحركة الوطنية وعزله إياها ليجد نفسه فجأة أمام حلف متماسك بينها وبين الملك. وتلك كانت لبنة أولى في صرح معركة انتهت بانسحاب المحتل ونيْل الاستقلال الوطني.
وما كان صدفة أن تقترن انطلاقة المقاومة الوطنية المسلحة وجيش التحرير بإقدام السلطات الاستعمارية على نفي محمد الخامس. ففعل النفي، كما اعتقال قيادة الحركة الوطنية، إنما آذَنَ بنهاية مرحلة النضال السياسي والدبلوماسي من أجل الاستقلال، وفرض الكفاح المسلح طريقاً وسبيلاً لتحصيل ما لم يُرِد الاستعمار التسليم به سياسياً.
كما لم يكن صدفة أن يقترن الإعلان عن استقلال المغرب بعودة الملك من منفاه. فالذي عاد، ليس مجرد ملك من الملوك يمكن العثور على غيره (إذا كان ذلك ثمناً للاستقلال)، وإنما هو رمز الشرعية والسيادة والرجل الذي ناضل من أجل استقلال وطنه، ولم يساوم على موقفه، ولا على علاقته بالحركة الوطنية، تحت أي ظرف، وآثَرَ أن يدفع غرامة ذلك من نفسه وسلطانه على أن يتنازل عن مبادئه. فاوض الوطنيون المغاربة الفرنسيين كما فاوضهم رجال المخزن وبعض الخونة في أمر استقلال البلاد. لكن أحداً لم يكن يملك أن يعلن ذلك الاستقلال غير محمد الخامس. وللحقيقة والتاريخ، حاول المفاوض الفرنسي في “إيكس ليبان” إغراء وفد الحركة الوطنية “بالتحلُّل” من العلاقة بالملك محمد الخامس وبحث مستقبل المغرب بمعزل عن مصير الملك (والمعلومات يوردها المفوض الفرنسي جوليي)، لكن القائدين الراحلين المهدي بن بركة وعبدالرحيم بوعبيد تمسَّكا بعودة الملك من المنفى شرطاً للتفاهم مع فرنسا حول مستقبل المغرب. وكان ذلك منهما وفاءً لمواقف محمد الخامس الوطنية.
كسب المغرب معركة الاستقلال الوطني في فترة قياسية سريعة بين العام 1944 والعام 1955 (ولو أن الاحتلال يعود الى العام 1912)، حين اهتدى الى صيغة التحالف العضوي بين الحركة الوطنية والمؤسسة الملكية. نجحت الحركة الوطنية في كسب ثقة محمد الخامس بها وعطفه عليها، وفشل الاستعمار الفرنسي في دق الأسافين أو الإيقاع بينهما، وقادهُ يأسه الى الإقدام على نفي الملك الى خارج الوطن والتنكيل بقادة الحركة الوطنية ومناضليها والزجّ بهم في السجون. ثم ما لبث الاحتلال الفرنسي أن أدرك مقدار ما يتمتع به محمد الخامس من شرعية شعبية رفعته في المخيال الجمعي الى مرتبة الأسطورة، والمكانة الاعتبارية الرفيعة التي كان يحظى بها عند الوطنيين: الذين حملوا منهم السلاح ثأراً له ودفاعاً عن الوطن، أو الذين فاوضوا الاحتلال ولم يساوموا على عودة الملك. وتلك كانت بداية النهاية لحقبة الاحتلال الأجنبي للمغرب.
لكن القدر ما أمهل الملك محمد الخامس طويلاً، فقد رحل الى دار البقاء ولمَّا يتجاوز الواحدة والخمسين (يموت الكبار في هذه السن: لينين في الرابعة والخمسين، جمال عبدالناصر في الثانية والخمسين، محمد عبده في السادسة والخمسين). ومن المؤسف أن المغرب أضاع أزيد من ثلث قرن بعد وفاة محمد الخامس ليكتشف أن لا بديل له من السير في الطريق نفسها الذي شقَّها هذا الرجل الكبير من خلال مفهومه للسلطة (كإدارة رحيمة لمصالح الشعب)، ومن خلال علاقة التوافق التي أقامها مع الحركة الوطنية في معركة التحرر الوطني وفي معركة بناء دولة الاستقلال.
وإذ احتفل المغرب بما يليق بذكرى عودة محمد الخامس وبذكرى استقلال البلاد، فإن الاحتفال الحقيقي الأكبر باللحظتين التاريخيتين تَيْنك هو استكمال المشروع السياسي الذي ابتدأ مع محمد الخامس، ووافته المنية قبل إنجاز كثير من حلقاته، واستكمال أهداف الاستقلال الوطني التي تعرضت لنكسة سياسية بعد إعفاء حكومة المرحوم عبدالله إبراهيم من مهامها وإخراج الحركة الوطنية من السلطة. وفي قلب ما ينبغي استكمال إنجازه من مهمات كبرى في مشروع محمد الخامس والحركة الوطنية، وفي فكرة الاستقلال، أهداف ثلاثة رئيسة: استعادة ما تبقَّى مغتصباً من أراضي الوطن (وتثبيت السيادة المغربية على مناطقنا الصحراوية المسترجعة)، ثم استكمال عملية التنمية السياسية الديمقراطية من خلال إصلاحات سياسية ودستورية عميقة وجوهرية تفضي الى بناء مؤسسات تمثيلية حقيقية ذات صدقية، وتكريس دولة الحريات والقانون، وأخيراً استكمال عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية الشاملة لإخراج المجتمع من حال التأخر والتخلف وتوزيع الثروة توزيعاً عادلاً يضع حداً للهَدْر والفساد وللفوارق الفاحشة بين الطبقات.
هي أهداف ثلاثة إذن (التحرير، الديمقراطية، التنمية والعدالة الاجتماعية) دشنتها دولة الاستقلال بقيادة محمد الخامس، ثم أصابها ما أصابها فتعثَّرت أو أخِذَتْ بالتقسيط والانتقاء. أما الدرس البليغ الذي يمكن أن تقدّمه سيرة الملك محمد الخامس في مضمار النضال، اليوم، من أجل استكمال إنجاز تلك الأهداف الكبرى، فهو أن الرافعة التاريخية والسياسية لذلك النضال، وأداته النافذة، اليوم وفي المستقبل، هي التوافق بين الفريقين اللذين صنعا تجربة الاستقلال وبناء أسس الدولة: المؤسسة الملكية والحركة الوطنية (الحركة الديمقراطية). إنه أعظم وفاء للملك الكبير محمد الخامس، وللعلم الكبير الذي بدأ بنيْل الاستقلال الوطني.
kwt rvk>> lpl] hgohls ,hsjrghg hglyvf