القلم الذهبي - الهجرة الى الطائف

[frame="7 80"]

الهجرة إلى الطائف

بعد وفاة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ورحيل عم الرسول ابي طالب بن عبد المطلب ، في عام الحزن ، ضاعفت قريش أصناف التنكيل بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وبالغت في إلحاق أصناف الأذى بعدد ممن اتبعوه وصدقوه وآمنوا برسالته ، فخرج إلى الطائف يلتمس النصر من قبائل ثقيف ويرجو أن يقبلوا منه ما جاءهم به من عند الله عز وجل .
حيث قطع صلى الله عليه وسلم صحبة زيد بن حارثة راجلين أزيد من مائة كيلومتر من مكة إلى الطائف .
وفي كتاب البداية والنهاية لابن كثير ، الجزء 3 صفحة 1 :
" قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي.
قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وعمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف.
وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله، وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه.
فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
وقال الآخر: أما وجد الله أحدا أرسله غيرك؟
وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال : «إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي». "
وحين هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمغادرة الطائف أغروا به سفهاءهم وصغارهم يسبونه ويصيحون به ، ويرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه ، واختضبت نعلاه بالدم. وزيد بن حارثة يقيه بنفسه وقد شج في رأسه وأصيب في أطرافه وجميع بدنه ، إلى أن وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بستان لعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة ، على بعد ثلاثة أميال من الطائف .
، فرجع عنه سفهاء ثقيف ، وعمد عليه الصلاة والسلام- وقد أنهكه التعب والجراح - إلى ظل شجرة عنب فجلس . وابنا ربيعة صاحبا الحائط ينظران إليه . فلما اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الظل، رفع رأسه بهذا الدعاء:
" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة ألا بك " .
ثم تحركت الشفقة في قلبي ابني ربيعة ، فدعوا غلاما نصرانيا لهما يقال له – عداس- وأرسلا إلى الرسول قطفا من العنب في طبق، فلما وضع عداس العنب بين يديه قال له : كل .
مد الرسول يده قائلا:
" بسم الله ... ثم أكل ، فقال عداس متعجبا : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم :
ومن أي البلاد أنت ؟ وما دينك ؟
قال: نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى – قرية بالموصل - ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :
" من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ "
فقال عداس وما يدريك ما يونس بن متى ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ذلك أخي ، كان نبيا وأنا نبي .. "
فأسلم عداس وأكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه .
قال ابن إسحاق :
" ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة ، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي ، فمر به النفر من الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى ، فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا .فاخبر الله رسوله بقوله :
" قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ... " سورة الجن .
وبقوله تعالى في سورة الأحقاف:
(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ .)
ومما جاء في البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنه صلى الله عليه وسلم قال:

"فَانْطَلَقْتُ -أي من الطائف- وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، ثم حدث أمر عجيب هناك فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ:
إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ .
فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الأَخْشَبَيْنِ (والأخشبان هما جبلا مكة: أبو قبيس وقيقعان). قَالَ النَّبِيُّ :
" قلت : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا".
ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة يريد دخول مكة . بعد غيابه عنها برحلة استغرقت عشرة ايام ، فقال له زيد :
كيف تدخل عليهم يارسول الله وهم أخرجوك ؟ فقال :
" يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وأن الله ناصر دينه ومظهر نبيه".
ولما دنا صلى الله عليه وسلم من مكة مكث بحراء ، وبعث رجلاً إلى ابن شريق ليجيره ، فاعتذر بأنه حليف ، والحليف لا يجير ،
ثم أرسل إلى سهيل بن عمرو ، فاعتذر بأنه من بني عامر بن لؤي ، وهم لا يجيرون على بني كعب بن لؤي ،
فأرسل إلى المطعم بن عدي ، وهو من بني نوفل بن عبد مناف ، فقال المطعم : نعم . وتسلح هو وبنوه ، ثم أرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء ودخل المسجد الحرام ، وطاف بالبيت ، وصلى ركعتين ، ثم انصرف إلى بيته ، والمطعم بن عدي وأولاده محدقون به ، مدججون بالسلاح .
وكان المطعم قد أعلن في قريش أنه أجار محمداً ، فقبلوا ذلك منه .
ولقد تحقق رجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استجاب ربه لدعائه..
وفي رمضان من العام التاسع من الهجرة وجدت قبيلة ثقيف أن قوة المسلمين أصبحت هي القوة الأولى في الجزيرة العربية، وبخاصة بعد فرار الجيوش الرومانية من المعركة مع المسلمين في تبوك، ففكَّرأهل الطائف أن يوفدوا منهم إلى المدينة من يبايع على الإسلام .
وكان واضحًا من كلامهم وترتيبهم أنهم ما جاءوا حُبًّا للإسلام، ولا اقتناعًا به، ولكن لرؤيتهم أنهم لا طاقة لهم بحرب المسلمين، ومن ثَمَّ كوَّنوا وفدًا يُحاور ويفاوض رسول الله ، ويصل معه إلى أفضل ما يمكن أن يصلوا إليه، وجعلوا على رأس هذا الوفد «عبد ياليل بن عمرو» الزعيم القديم الذي سَخِرَ في أيام الهجرة الى الطائف من رسول الله سخريةً استهزاء واستخفاف .
استقبل رسول الله وفد ثقيف وعلى رأسه «عبد ياليل» خير استقبال، وقابلهم بالترحاب والبسمة و حسن الضيافة ، بل جلس معهم يستمع لمفاوضاتهم ومقترحاتهم التي كانت في غاية السفاهة، ومع ذلك لم ينفعل عليهم، أو يسيئ إليهم ، بل ناقشهم في هدوء وحسن إصغاء ، وتكلَّم معهم بلباقة ورَويَّة !!
طلبوا أن يُسلِموا بشروط منها:
أن يأذن لهم في الربا والزنا والخمر، وأن يُعْفَوْا من الصلاة، وأن تُتْرَكَ لهم اللات دون أن تُكسر.
أخذ الرسول يُفَسِّرُ لهم ويشرح، ورفض مطالبهم هذه بأسلوب يَغْلِبُ عليه الرفق واللين، وكان يُحاورهم كل ليلة بعد صلاة العشاء، ويُكثر من الحديث معهم، وقد ضرب لهم قُبَّة في المسجد النبوي تكريمًا لهم، وتعظيمًا لقَدْرِهِم.
هذا مع أنهم لم يُسلموا بعدُ..
وفي نهاية الأمر، قَبِلَ وفد الطائف بالإسلام كاملاً دون انتقاص ولا تفريط،
ودخلت بعد ذلك قبائل ثقيف في الإسلام، وكانت من أكثر الناس ثباتًا والتزاما بتعاليمه .
وهكذا دخلت الطائف ومعها ثقيف في الإسلام بعد فتح مكة .
وولد لهم أولاد عبدوا الله ولم يشركوا به شيئًا، وحدثت مأساة الردة الضخمة في جزيرة العرب بعد وفاة رسول الله ، وارتدت جزيرة العرب بكاملها، ولم يثبت على الإيمان إلا ثلاث طوائف ، هي التي بمكة والتي بالطائف والتي بالمدينة المنورة،
وأخرج الله من أصلاب هؤلاء من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا،وكانوا أبطالا حملوا لا إله إلا الله إلى كل بقعة في الأرض .
فمن صُلب الوليد بن المغيرة خرج خالد بن الوليد،
ومن صلب أبي جهل خرج عكرمة بن أبي جهل،
ومن صلب العاص بن وائل خرج عمرو بن العاص،
ومن صلب عتبة بن ربيعة خرج أبو حذيفة بن عتبة،
وهذا نصر كبير للدعوة ، وثمرة من ثمار هجرته صلى الله عليه وسلم إلى الطائف .

[/frame]

الحواط